فصل: ذكر عدة حوادث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل أبي مسلم الخراساني:

وفي هذه السنة قتل أبو مسلم الخراساني، قتله المنصور.
وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج، على ما تقدم، وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: إن أبا مسلم كتب يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يريد أن يسألني أن أوليه الموسم، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك، فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك.
فكتب المنصور إلى أخيه السفاح بستأذنه في الحج، فأذن له، فقدم الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاماً يحج فيه غير هذا؟ وحقدها عليه، وحجا معاً، فكان أبو مسلم يكسو الأعراب ويصلح الآبار والطريق، وكان الذكر له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه. فلما قدم مكة ورأى أهل اليمن قال: أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة! فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم في الطريق على أبي جعفر، فأتاه خبر وفاة السفاح، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه عن أخيه ولم يهنئه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع. فغضب أبو جعفر وكتب إليه كتاباً غليظاً، فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة. وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى ابن موسى إلى أن يبايع له، فأتى عيسى، وقدم أبو جعفر وخلع عبد الله بن علي،فسير المنصور أبا مسلم إلى قتاله، كما تقدم مكاناً، مع الحسن بن قحطبة، فأرسل الحسن إلى أبي أيوب وزير المنصور: إني قد رأيت بأبي مسلم، أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحكان استهزاء، فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال: نحن لأي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي، إلا أنا نرجو واحدة، نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله وقد قتل منهم من قتل. وكان قتل منهم سبعة عشرألفاً.
فلما انهزم عبد الله وجمع أبو مسلم ما غنم من عسكره بعث أبو جعفر أبا الخطيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال، فأراد أبو مسلم قتله، فتكلم فيه فخلى سبيله وقال: أنا أمين على الدماء خائن في الأموال. وشتم المنصور، فرجع أبو الخطيب إلا المنصور فأخبره، فخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه: إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب.
فلما أتاه الكتاب غضب وقال: يوليني الشام ومصر وخراسان لي! فكتب الرسول إلى المنصور بذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعاً على الخلاف، وخرج عن وجهه يريد خراسان.
فسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم في المسير إله، فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب: إنه لم يبق لأمير المؤمنين، أكرمه الله، عدوا إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف مايكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فإنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نق2ضت ما أبرمت من عهدك ضناً بنفسي.
فلما وصل الكاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسمل: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟ فأنت في طاعتك وما صحتك واضلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، ليس مع الشرطة التي أوجبت منك سمعاً ولا طاعة، وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد باباً يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك.
وقيل: بل كتب إليه أبو مسمل: أما بعد فإني اتخذت رجلاً إماماً ودليلاً على ما افترض الله على خلقه، وكان في محله العلم نازلاً، وفي قرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قريباً، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعاً في قليل قد نعاه الله إلى خلقه، فكان كالذي دلى بغرور وأمرني أن أجرد السيف وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العشرة، ففعلت توطئة لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يحملكم ثم استنقذنب الله بالتوبة، فإن يعف عني فقدماً عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يدياي وما الله بظلام للعبيد.
وخرج أبو مسلم مراغماً مشاقاً، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقال المنصور لعمه عيسى بن علي ومن حضر من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم. فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه وسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور.
وبعث المنصور الكتاب مع أبي حميد المروروذي وقال له: كلم أبا مسمل بألين ما تكلم به أحداً، منه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما أحب، فإن أبي أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين لست من العباس وإني بريء من محمد إن مضيت مشاقاً ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك؛ ولا تقولن هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمع منه خير.
فسار أبو حميد فقدم على أبي مسلم بحلوان فدفع إليه الكتاب وقال له: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه منك حسداً وبغاً، يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك. وكلمه وقال: يا أبا مسلم إنك لم تزل أمير آل محمد يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من ديناك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينك الشيطان.
فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا الكلام؟ فقال: إنك دعوتنا إلى هذا الأمر وإلى طاعة أهل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، بني العباس، وأمرتنا من خالف ذلك فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم وألف ما بين قلوبنا بمحبتهم وأعزنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلاً إلا بما قذف الله في قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن تفسد أمرنا وتفرق كلمتنا؟ زقد قلت لنا من خالفكم فاقتلوه وغن خالفتكم فاقتلوني! فأقبل أبو مسلم على أبي نصر مالك بن الهيثم فقال: أما تسمع ما يقول لي هذا؟ ما كان بكلامه يا مالك! قال: لا تسمع قوله ولا يهولنك هذا منه، فلعمري ما هذا كلامه ولما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فوالله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبداً.
فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك فعرض عليه الكتب وما قالوا، فقال: ما أرى أن تأتيه وأرى أن تأتي الري فتقيم بها فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جنك وكانت خراسان وراءك ورأيت رأيك.
فدعا أبا حميد فقال: ارجع إلى صاحبك فيس من رأيي أن آتيه. قال: قد عزمت على خلافه؟ قال: نعم. قال: لا تفعل! قال: لا أعود إليه أبداً. فلما يئس من رجوعه معه قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلاً ثم قال: قم. فكسره ذلك القول ورعبه.
وكان أبو جعفر المنصور قد كتب إلى أبي داود خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا سملم: إن لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمكعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه، صلى الله عليه وسلم، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعباً وهماً، فأرسل إلى أبي حميد فقال له: إني كنت عازماً على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به. فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال له المنصور: اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان؛ وأجازه.
فرج أبو إسحاق وقال لأبي مسلم: ما أنكرت شيئاً، رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما يرون لأنفسهم. وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان منه، فأجمع على ذلك. فقال له نيزك: قد أحمعت على الرجوع؟ قال: نعم؛ وتمثل:
ما للرجال مع القضاء محالة ** ذهب القضاء بحيلة الأقوام

قال: إذا عزمت على هذا فخار الله لك. احفظ عني واحدةً، إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت، فإن الناس لا يخالفونك.
وكتب أبو مسلم إلى المنصور يخبره أنه منصرف إليه، وسار نحوه، واستخلف أبا نصر على عسكره، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابي، فغن أتاك مختوماً بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كله فم أختمه. وقدم المدائن في ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان.
ولما ورد كتاب أبي مسلم على المنصور قرأه وألقاه إلى أبي أيوب وزيره، فقرأه وقال له المنصور: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.
فخاف أبو أيوب من أصحاب أبي مسلم أن يقتلوا المنصور ويقتلوه معه، فدعا سلمة بن سعيد بن جابر وقال له: هل عندك شكر؟ فقال: نعم. قال: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق تدخل معك أخي حاتماً- وأراد بإدخال أخيه معه أن يطمع ولا ينكر- وتجعل له النصف؟ قال: نعم. قال له: إن كسكركانت عام أول كذا وكذا ومنها العام أصعاف ذلك، فإن دفعتهاإليك بما كانت أو بالأمانة أصبت ما يضيق به ذرعاً. قال: كيف لي بهذا المال؟ قال له أبو أيوب: تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه ويريح نفسه، قال: فكيف لي أن يأذن لي أمير المؤمنين في لقائه؟ فاستأذن له أبو أيوب في ذلك، فأذن له المنصور وأمره أن يبلغ سلامه وشوقه إلى أبي مسلم، فلقيه سلمة بالطريق وأخبره الخبر وطابت نفسه، وكان قبل ذلك كئياً حزيناً، ولم يزل مسروراً حتى قدم.
فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس، ثم قدم فدخل على المنصور فقبل يده، وأمره أن ينصرف ويروح نفسه لثلاثة ويدخل الحمام، فانصرف.
فلما كان الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعةً من الحرس، منهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة حرب بن قيس، فأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه، وتركهم خلف الرواق.
وأرسل إلى أبي مسلم يستدعيه، وكان عنده عيسى بن موسى يتغدى، فدخل على المنصور، فقال له المنصور: أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن علي. قال: هذا أحدهما. قال أرينيه. فانتضاه وناوله إياه، فوضعه المنصور تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه وقال له: أخبرني عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين؟ قال: ظننت أخذه لا يحل، فلما أتاني كتابه علمت أن وأهل بيته معدن العلم. قال: فاخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة.قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك للرفق. قال: فقولك لمن أشار عليك بالانصراف إلي بطريق مكة حين أتاك موت أبي العباس إلى أن تقدم فنرى رأينا، ومضيت فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي! قال: منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت تقدم الكوفة وليس عليك من خلاف. قالك فجارية عبد الله أردت أن تتخذها؟ قال: لا، ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها. قال: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري فأذهب ما في نفسك. قال: فالمال الذي جمعته بخراسان؟ قال: أنفقه بالجند تقويةً لهم واستصلاحاً. قال: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة ابنة علي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت، لا أم لك، مرتقى صعباً.
ثم قال: وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد فتياننا قبل أن يدخلك في هذا الأمر؟ قال: أراد الخلاف وعصاني فقتلته.
فلما طال عتاب المنصور قال: لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني. قال: يابن الخبيثة! والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا ويريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلاً.
فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: ما رايت كاليوم! والله ما زدتني إلا غضباً! قال أبو مسلم: دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا الله تعالى. فغضب المنصور وشتمه وصفق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس، فضربه عثمان بن نهبك فقطع حمائل سيفه، فقال: استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين! فقال: لا أبقاني الله إذاً، أعدوا أعدى لي منك؟ وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يصيح العفو، فقال المنصور: يا بن اللخناء العفو والسيوف قد اعتورتك! فقتلوه في شعبان لخمس بقين منه. فقال المنصور:
زعمت أن الدين لا يقتضى ** فاستوف بالكيل أبا مجرم

سقيت كأساً كنت تسقي بها ** أمر في الحلق من العلقم

وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبراً.
فلما تقل أبو مسلم دخل أبو لجهم على المنصور فرأى أبا مسلم قتيلاً فقال: ألا أراد الناس؟ قال: بلى فمر بمتاع يحمل إلى رواق آخر.
وخرج أبو الجهم فقال: انصرفوا فإن الأمير يريد القائلة عند أمير المؤمنين. ورأوا المتاع ينقل فظنوه صادقاً فانصرفوا، وأمر لهم المنصور بالجوائز، فأعطى أبا إسحاق مائة ألف.
ودخل عيسى بن موسى على المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال: يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم؟ فقال: قد كان هاهنا. فقال عيسى: عرفت نصيحته وطاعته وري الإمام إبراهيم كان فيه. فقال: يا أحمق والله ما أعلم في الأرض عدواً أعدى لك منه! ها هوذا في البساط.
فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان لعيسى فيه رأي. فقال له المنصور: خلع الله قلبك! وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم؟ ثم دعا المنصور بجعفر بن حنظلة فدخل عليه، فقال: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ قال: يا أمير المؤمنين إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل. فقال له المنصور: وفقك الله! فلما نظر إلى أبي مسلم مقتولاً قال: يا أمير المؤمنين عد من هذا اليوم لخلافتك.
ثم دعا المنصور بأبي إسحاق، فلما دخل عليه قال له: أنت المانع عدو الله على ما أجمع عليه! وقد كان بلغه أنه أشار عليه بإتيان خراسان، قال: فكف أبو إسحاق وجعل يلتفت يميناً وشمالاً خوفاً من أبي مسلم، فقال له المنصور: تكلم بما أردت فقد قتل الله الفاسق، وأمر بإخراجه. فلما رآه أبو إسحاق خر ساجداً لله فأطال ورفع رأسه وهو يقول: الحمد لله الذي آمنني بك اليوم! والله أمنته يوماً واحداً، وما جئته يوماً قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت. ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها كتان حدد وقد تحنط.
فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه وقال له: استقبل طاعة خليفتك وأحمد الله الذي أراحك من الفاسق هذا. ثم قال له: فرق عني هذه الجماعة.
ثم كتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده وأني قدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى الخاتم تاماً علم أن أبا مسلم لم يكتب، فقال: فعلتموها! وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان.
فكتب المنصور لأبي نصر عهده على شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركي، وهو على همذان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه. فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فقال له زهير: قد صنعت لك طعاماً فلو أكرمتني بدخول منزلي. فحضر عنده، فأخذه زهير فحبسه.
وكتب أبو جعفر إلى زهير كتاباً يأمره بقتل أبي نصر، وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده على شهرزور، فخلى زهير سبيله لهواه فيه، فخرج ثم وصل بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتل أبي نصر، فقال: جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله.
وقدم أبو نصر على المنصور فقال له: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان؟ قال: نعم، كانت له عندي أيادٍ فنصحت له، وإن اصطنعني أمير المؤمنين نصحت له وشكرت. فعفا عنه.
فلما كان يوم الراوندية قام أبو نصر على باب القصر وقال: أنا البواب اليوم لا يدخل أحد وأنا حي. فسأل عنه المنصور فأخبر به، فعلم أنه قد نصح له. وقيل: إن زهيراً أبا نصر إلى المنصور مقيداً، فمن عليه واستعمله على الموصل.
ولما قتل المنصور أبا مسلم خطب الناس فقال: أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، وإن أبا مسلم أحسن مبتدأً وأساء معقباً، وأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله وعنفنا في إمهالنا، وما ال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنما في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق من إمضاء الحق فيه؛ وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان- يعني ابن المنذر-
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ** كما أطاعك وادلله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة ** تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

ثم نزل.
وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة، وأبي الزبير المكي، وثابت الناتي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والسدير؛ وروى عنه إبراهيم ابن ميمون الصائغ، وعبد الله بن المبارك، وغيرهما.
خطب يوماً فقام إليه رجل فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك؟ فقال: حدثني أبو البير عن جبابر بن عبد الله أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه وثياب الدولة، يا غلام اضرب عنقه.
قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيراً أو الحجاج؟ قال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيراً من أحد، ولكن الحجاج كان شراً منه.
وكان أبو مسلم نازكاً شجاعاً ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة، وقيل له: بم نلت ما أنت فيه من القهر للأعداء؟ فقال: ارتديت الصبر وآثرت الكتمان وحالفت الحزان والأشجان وشامخت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي؛ ثم قال:
قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت ** عنه ملوك بني ساسان إذ حشدوا

ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا ** من رقدةٍ لم ينمها قبلهم أحد

طفقت أسعى عليهم في ديارهم ** والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا

ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ** ونام عنها تولى رعيها الأسد

وقيل: إن أبا مسلم ورد نيسابور على حمار بإكافٍ وليس معه أدمي، فقصد في بعض الليالي داراً لفاذوسيان فدق عليه الباب، ففزع أصحابه وخرجوا إليه، فقال لهم: قولوا للدهقان إن أبا مسلم بالباب يطلب منك ألف درهم ودابة. فقالوا للدهقان ذلك، فقال الدهقان: في أي زي هو وأي عدة؟ فأخبروه أنه وحده في أدون زي، فسكت ساعةً ثم دعا بألف درهم ودابة من خواص دوابه وأذن له وقال: يا أبا مسلم قد أسعفناك بما طلبت، وإن عرضت حاجة أخرى فنحن بين يديك. فقال: ما نضيع لك ما فعلته.
فلما ملك له بعض أقاربه: إن فتحت نيسابور أخذت كل ما تريده من مال الفاذوسيان دهقانها المجوسي. فقال أبو مسلم: له عندنا يد. فلما ملك نيسابور أتته هدايا الفاذوسيان، فقيل له: لا تقبلها واطلب منه الأموال. فقال: له عندي يد. ولم يتعرض له ولا لأحد من أصحابه وأمواله. وهذا يدل على علو همة وكمال مروءة.
وفي هذه السنة استعمل المنصور أبا داود على خراسان وكتب إليه بعهده.

.ذكر خروج سنباد بخراسان:

وفي هذه السنة خرج ينباذ بخراسان يطلب بدم أبي مسلم، وكان مجوسياً من قرى نيسابور يقال لها أهروانه؛ كان ظهوره غضباً لقتل أبي ملم لأنه كان من صنائعه، وكثر أتباعه، وكان عامتهممن أهل الجبال، وغلب على نيسابور وقومس والري، وتسمى فيوز أصبهبذ،. فلما صار بالري أخذ خزائن أبي مسلم، وكان أبو مسلم خلفها بالري حين شخص إلى أبي العباس، وسبى الحرم، ونهب الأموال ولم يعرض للتجار، وكان يظهر أنه يقصد الكعبة ويهدمها.
فوجه إليه المنصور جمهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف فارس، فالتقوا بين همذان والري على طرف المفازة، وعزم جمهور على مطاولته، فلما التقوا قدم سنباذ السبايا من النساء المسلمات على الجمال، فلما رأين عسكر المسلمين قمن في المحامل ونادين: وامحمداه! ذهب الإسلام! ووقعت الريح في أثوابهن فنفرت الإبل وعادت على عسكر سنباذ، فتفرق العسكر وكان ذلك سبب الهزيمة، وتبع المسلمون الإبل ووضعوا السيوف في المجوس ومن معهم فقتلوهم كيف شاؤوا، وكان عدد القتلى نحواً من ستين ألفاً، وسبى ذراريهم ونساءهم، ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس.
وكان بين مخرج سنباذ وقتله سبعون ليلة، وكان سبب قتله أنه قصد طبرستان ملتجئاً إلى صاحبها، فأرسل إلى طريقه عاملاً له اسمه طوس، فتكبر عليه سنباذ، فضرب طوس عنقه وكتب إلى المنصور بقتله وأخذ ما معه من الأموال؛ وكتب المنصور إلى صاحب طبرستان يطلب منه الأموال، فأنكرها، فسير الجنود إليه، فهرب إلى الديلم.

.ذكر خروج ملبد بن حرملة:

وفي هذه السنة خرج ملبد بن حرملة السيباني، فحكم بناحية الجزيرة، فسارت إليه روابط الجزيرة، وهو في نحو ألف فارس، فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم. ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي، فهزمه ملبد وأخذ جاريةً له كان يطأها، فوجه إليه المنصور مولاه مهلهل بن صفوان في ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبد واستباح عسكرهم.
ثم وجه إليه نزاراً قائداً من قواد خراسان، فقتله ملبد وانهزم أصحابه.
ثم وجه إليه زياد بن مشكان في جمع كثير، فلقيهم ملبد فهزمهم. ثم وجه إليه صالح بن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة، فهزمهم ملبد. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو على الجزيرة يومئذ، فلقيه ملبد فهزمه، وتحصن منه حميد بن قحطبة وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكف عنه.
وقيل: إن خروج ملبد كان ينة ثمان وثلاثين ومائة.

.ذكر عدة حوادث:

ولم يكن للناس هذه السنة صائفة لشغل السلطان بحرب سنباذ.
وحج بالناس هذه السنة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الموصل، وكان على المدينة زياد بن عبد الله، وعلى مكة العباس بن عبد الله ابن معبد. ومات العباس عند انقضاء الموسم، فضم إسماعيل عمله إلى زياد ابن عبيد الله وأقره المنصور عليه. وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي، وعلى قضائها عمر بن عامر السلمي، وعلى خراسان أبو داود خالد بن إليراهيم، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى الموصل إسماعيل بن علي بن عبد الله، وهي على ما كانت عليه من الأجتدال. ثم دخلت: